التاريخ الإسلامي

السلطان بايزيد الثاني: القائد التقي الذي جمع غبار المعارك لقبره

(السلطان الولي)

في تاريخ الدولة العثمانية، يبرز اسم السلطان بايزيد الثاني كرمز للتقوى، الجهاد، والعلم. هذا السلطان، ابن محمد الفاتح ووالد السلطان سليم الأول، وجد السلطان سليمان القانوني، كان شخصية فريدة جمعت بين القيادة العسكرية والعبادة الصادقة، حتى لُقب بـ”السلطان الولي” بين رعيته. يُعتبر بايزيد الثاني واحدًا من السلاطين العثمانيين الذين تركوا بصمة لا تُمحى في التاريخ، سواء من خلال غزواته أو اهتمامه بالعلم والخدمات العامة.

حياة السلطان بايزيد الثاني وبصمته في الحكم

وُلد بايزيد الثاني في 3 ديسمبر 1447م، وتولى الحكم عام 1481م بعد وفاة والده محمد الفاتح. حكم العثمانيين لمدة 31 عامًا (1481-1512م) بأسلوب يجمع بين الحزم والرحمة.

لم يكن بايزيد الثاني قائدًا نظريًا؛ فقد كان بارعًا في رمي السهام ويباشر الحروب بنفسه، مما جعله قائدًا ميدانيًا لا يتوانى عن قيادة الجيوش في الغزوات. لكن ما ميزه حقًا هو التزامه الديني العميق؛ إذ يُروى أنه لم تفته صلاة فرض قط طوال حياته، وهو ما أكسبه لقب “السلطان الولي“، أي السلطان الصالح الذي يتمتع بقرب من الله.

رمزية جمع غبار المعارك للدفن

من أبرز القصص التي تجسد تقوى بايزيد الثاني هي عادته في جمع غبار المعارك. كان السلطان يحفظ الغبار المتراكم على ثيابه بعد كل غزوة بعناية فائقة، معتبرًا إياه رمزًا لجهاده في سبيل الله.

عندما دنا أجله، أوصى بأن يُصنع من هذا الغبار طابوقة صغيرة توضع تحت خده الأيمن في قبره، مستندًا إلى حديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم: “من أغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار”. نُفذت وصيته بعد وفاته في 26 مايو 1512م (918هـ)، وما زالت الطابوقة مدفونة معه في قبره بجانب الجامع الذي يحمل اسمه في إسطنبول.

 

الموقف العجيب للإمامة وتأكيد لقب “الولي”

من المواقف التي تُظهر عمق تقواه، عند افتتاح جامع بايزيد الثاني بعد بنائه، دعا الإمام الحاضرين قائلاً: “ليتقدم للإمامة من لم تفته صلاة فرض في حياته قط”. وسط صمت الحضور، تقدم السلطان بايزيد الثاني بهدوء وخشوع ليؤم الناس في الصلاة، مما أكد لقبه “السلطان الولي” بين شعبه الذي أحبه وحترمه.

 

إسهاماته في العلم والمجتمع

لم يكن بايزيد الثاني مجرد قائد عسكري؛ بل كان عالمًا متبحرًا في العلوم العربية والإسلامية، واهتم بإنشاء المؤسسات العامة. بنى الجوامع، المدارس، المستشفيات، التكايا، ودور الضيافة، ورتب رواتب سخية للعلماء وطلاب العلم. كما كان معروفًا بمحبته لأهل الحرمين الشريفين، حيث دعم الحجاج والمسلمين في مكة والمدينة، مما عزز مكانة الدولة العثمانية كخادم للحرمين.

تراث السلطان بايزيد الثاني

توفي السلطان بايزيد الثاني في 26 مايو 1512م في إسطنبول بعد أن تخلى عن العرش لابنه السلطان سليم الأول. دُفن بجانب الجامع الذي يحمل اسمه. ترك بايزيد الثاني إرثًا عظيمًا ليس فقط في الجهاد والحروب، بل في بناء مجتمع متماسك يقوم على العلم والدين.

القصص الموثقة عن السلطان الولي، وخاصة وصيته بدفن غبار المعارك، تظل رمزًا خالدًا يجمع بين قوة القيادة وصدق العبادة.

المصدر
روائع من التاريخ العثماني - أورخان محمد عليالدولة العثمانية - د. علي الصلابي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى