لصٌّ بضمير: عندما يُعلِّمنا السارق دروساً في الإنسانية
في إحدى محطات الزمن، يحدث أن تتجاوز بعض القصص حدود المنطق، فتندمج الإنسانية مع أكثر المهن قسوةً، وتتحول يد اللص من أداةٍ للنهب إلى جسرٍ للرحمة. هذا ما حدث مع كاتبٍ باكستاني يُدعى “أديب مرزا”، الذي قصَّ في كتابه “المصباح” حكاية طريفة، حزينة، ومع ذلك مُفعمة بالإنسانية في آنٍ معاً.
يعود بنا “مرزا” إلى فترة الستينيات عندما كان يعمل في العاصمة الهندية دلهي. في يومٍ اعتيادي، وبعد أن ترجل من الحافلة، تفحَّص جيوبه فاكتشف أن يدًا خفية قد التقطت محفظته. لم يكن في جيبه سوى تسع روبيات ورسالة كان ينوي إرسالها لاحقاً إلى أمِّه. حملت الرسالة اعترافًا مؤلمًا بفقدانه العمل، وعجزه عن تحويل مبلغ الخمسين روبية المعتاد لوالدته. اعتقد وقتها أن فقدان تلك الروبيات التسع – رغم ضآلتها – خسارة فادحة بالنسبة لرجل فُصل من عمله، وما عاد يملك قوت يومه.
مرَّت الأيام، وفاجأته رسالة من والدته، لكنها لم تكن الرسالة المتوقعة التي تُعاتبه أو تستفسر عن المبلغ. على العكس، كانت تشكره وتدعو له، مؤكدة استلامها لمبلغ الخمسين روبية في موعده المعتاد. وقف “مرزا” مذهولاً، كيف وصل المال إلى والدته؟! إنّه لم يُرسل شيئاً، بل أضاع مالَه القليل بين أصابع اللص.
لم تمضِ سوى أيام قليلة حتى وصله خطاب آخر، كتبه بخطٍ مرتجف شخص مجهول. قال فيه صاحبه: “أنا الذي سرقتك في الحافلة. وجدت رسالتك إلى أمك في مظروفك، وفهمت قصتك وحالك. تذكَّرت أمّك وأمّي، فقلت في نفسي: لماذا أضيف إلى جوع أمِّك ذنباً آخر، وأنا قادر على مساعدتها؟ جمعتُ إحدى وأربعين روبية، وضفتها إلى تسعك المسروقة، وأرسلتها لأمك في حوالةٍ مالية. سامحني.”
هذه القصة ليست دعوة للتسامح مع اللصوص أو تبرير أفعالهم، بل لفتة إنسانية تُبيِّن أن القلوب قد تستيقظ أحيانًا في أحلك المواقف. لقد أثبت هذا السارق أن الضمير ليس حكراً على الأنقياء وأصحاب السلوك السوي، بل إن لحظاتٍ نادرة قد تستفز مكامن الخير حتى في الظلّام. ربما كان هذا الحدث درساً عميقاً في أن أطياف الرحمة قد تتسلل من أكثر المصادر غير المتوقعة، وأن الإنسانية بإمكانها أن تشرق حتى من أعتى مواضع الظلمة.